Thursday, September 15, 2011

نرد حياتي


بدأت تلك المقالة يوم الواحد و الثلاثون من مايو عام 2011 بالطائرة عائدا لمصر لكنى لم أنجز بها الكثير بسبب تحمسى الشديد للوصول فإستكملتها يوم الخامس عشر من سبتمبر بعد قضاء أجازتى بمصر و عودتي للولايات المتحدة الامريكية.
هذا ملخص عامي الاول بامريكا , فإن كنت غير مهتم بها فيكفي قراءة حتى هذا السطر.

بيداي طُويت أخر صفحة من صفحات عامي الأول بأمريكا. طويت الصفحة و وصلت للملخص المكتوب على الغلاف الخلفى للكتاب و قرأته فإبتسمت عندما إكتشفت أن الرحلة ملخصة بكلمة واحدة و هي النجاح. أدون الأن و أنا بالطائرة عائد لمصر.منذ وصولي لنيويورك كلما أرمي النرد عشوائيا تأتي إجابته برقم حظ يحرك روحي خطوات ثقيلة و واثقة نحو مستقبل منير. أستطيع أن أقول أن كريم عبد الرازق الذي سافر من مصر مختلف كل الإختلاف عن كريم الحايس العائد لمصر بعد عام من الخطوات المحلقة.

سافرت للولايات المتحدة الأمريكية تنتتابني حالة من الجمود و الركود كفرع من نهر فصلوه عن مصدره, جئت كارها لتلك البلد التي كنت زرتها العام الذي سبق سفري و كرهتها. جئتها ثانية و قلبي ملئ بالكره لها لأنها أبعدتني عن أهلي و أصدقائي و حتي عن من يكرهني الذين بدونهم لم يكن لحياتى طعم. أبعدتني عن حياة القاهرة الثقافية, أبعدتني عن ليل زاهر و نهار نشيط. أبعدتني عن طبق الفول المدمس الذي لا يستطيع ظبطه أحد إلا أمي, أبعدتني عن شارع المعز و ثراء ثقافته. أبعدتني عن صلاة خاشعة بالأزهر, أبعدتني عن حفلات ساقية الصاوي, أبعدتني عن أصالة أحياء مصر الفقيرة, أبعدتني عن طبق الكسكسى المفضل لدي من محل بعينه بالدرب الأحمر, أبعدتني عن النوم علي صوت عبد الباسط عبد الصمد, أبعدتني عن إحساس أني إن أخذت أي أتوبيس عام, أعلم أنى لو نزلت بأي محطة عشوائيا سأجد من أصدقائي و معارفي من يستضيفني ببيته. أبعدتنى عن معنى العبق و الأصالة و أخذتني لحياة معدومة الملامح و عديمة الثقافة. أخذتني لمجتمع أحسه غريب عني – مع تحفظى الشديد على وصف من يعيشون بامريكا بمجتمع فهم مزيج من البشر من جميع بلاد العالم جمعوهم عشوائيا وألقوهم معا بأرض واحدة –, كنت أشبه الطائرة التي أقلتني لنيويورك كصراط  يوم القيامة لكن هذا الصراط  يقود الى النار بعكس صراط يوم القيامة الذي يقود إلى الجنة. كل تلك الأشياء كانت تدور في عقلي حين جئت هنا لكن مرت الأيام و الشهور حتى تبدلت تلك الأحاسيس كلها.

أقضيت أشهرمن الغربة و التقوقع بالمنزل غير راض على تلك الخطوة المتهورة التى أخذتها. شهران أقضيتهم كالتائه الذى لا يعرف ما يدور حوله. كنت كلما احاول ان أسلك أى طريق أتوقف بسبب عدم تمكني من رؤية بداية هذا الطريق. على سبيل المثال كلما أحاول أن أقدم أوراقى لأى جامعة كانت تظهر لى عقبات لم اكن أراها من قبل. كلما أحاول البحث عن وظيفة تكون مصدردخل لى يعيننى حتى اتغلب على غلاء معيشة نيويورك فلا أرى غير الرفض من قبل مديرين الاماكن التى اتقدم للعمل بها. تعددت أسباب الرفض لكن بقى الرفض واحد لكن أكثر سبب أعيد قوله هوعدم تجاوزى سن الثامنة عشر. بقيت متقوقع بالمنزل لا أفعل أى شئ إلا مشاهدة الأفلام. بأكتوبر تتطورت حالتى من عدم رضا إلى كسرة بنفسى كبيرة بسبب تعرضى لموقف صعب أعتبره أول شرخ بقلبى. و هذا الإنكسار نتج عنه حالة من اليأس و اللامبالاة انتابتنى و تمكنت منى تماما. أرسلت رسالة لوالدى قائلا له :احجزلى مكان على اي طيارة راجعة مصر. قررت الاستسلام من أول خطوة. أمى هى من وقفت لى و منعتنى من النزول. يا لها من قوة أولدتها بداخلها لا أدرى من أين اتت بها. برغم انها كانت اكثر شخص متضررعاطفيا و معنويا من سفرى و كانت أكثر من كان رافض فكرة سفرى من الأول لكنها قاومت و لم تظهر لى بهذه اللحظة ضعفها الداخلى و رغبتها الملحة بان أرجع. أغلقت معى التليفون بعد ارغامى بالبقاء و بدأت هي فى البكاء. و كالعادة لم يخب قلب أمى قط. بعدها بيومين اتصل بي مدير مطعم وجبات سريعة طالبا منى ان احضر للمحل لمقابلة بسيطة  و بالفعل ذهبت و اكتشفت ان المدير كان مصري و تم قبولى.
يد إلهية هى من حركت حبال عرائس ماريونيت حياتى طوال مدة عامي الأول بامريكا و خصوصا بأشهرى الأولى. و هى التى جعلت أمى ترفض و تمنع فكرة رجوعي. و هى التى جعلت المدير يكلمنى بعد عدة ايام من وصولى لأسوأ حالاتي عالإطلاق. و هى من وضعت كل تلك العقبات من الأساس حتى أدرك أن لا يجب على الإستسلام مهما كانت الظروف.

بدأت العمل بهذا المطعم (دنكن دونتس) و اكتشف مدى صعوبة تلك الوظيفة و مدى الارهاق الذى أصيب به بعد كل يوم من العمل. و بهذا خطوت أول خطوة فى مجال العمل و بقى مجال الدراسة مخبى بالضباب. تعلمت الدرس و قررت ألا أيأس أبدا. صبرت بالوظيفة بدون دراسة و عانيت كثيرا بعدما اتضح لى ان هذا المدير المصرى من أسوأ الشخصيات التى قابلتها بحياتى و بعدما رأيت تعامله القاسي معي و رأيت استغلاله و استنزافه للموظفين. فكانت عندما تثلج كان لا يدفع لشركة جرف الثلج و يجعلنا نجرف الثلج يدويا بالجاروف. و كان لا يعطينا أبسط حقوقنا و هى طلب يوم اجازة. فعندما يكون عندى ارتباطات و لا يمكننى العمل يوم ما و أطلبه اجازة أكون متاكد ان فى المقابل سيقلل من جدولى التالى يوم أخر فبالتالى شيك القبض الإسبوعى المبنى على نظام الدفع بعدد ساعات العمل سيقل و بالتالى يتسبب لى بازمة مادية تتضطرنى ان احرم نفسى من الأكل لمدة أيام حتى اوفر و اعوض هذه الخسارة و لتجنب تلك الخسارات أصبحت لا أطلب أجازات نهائيا لدرجة انى ذهبت لإمتحان التفاضل معتمدا على مستوايا الجيد فى التفاضل بدوم مذاكرة فكنت بالعمل ليلة الإمتحان.

من كان يخفف عنى قسوة تلك الوظيفة و قذارة المدير هم زملائى بالمطعم الذين أصبحوا اصدقائى بسرعة بعدما كان ينتابهم بعض القلق منى خائفين ان أكون مثل مديرى المصرى و أن أكون جاسوس عليهم. و لكن سريعا ما إتضحت لهم شخصيتى الحقيقية حتى وصلت الصداقة إلى أن أخذونى فى يوم عيد ميلادى لمطعم و بعدها ذهبنا للعب البولينج وأصروا أن يعزمونى.  
أتت توأمي مريم إلي بمنتصف يناير. خففت عنى القليل حتى أتى الخامس و العشرين من يناير. فقد أحسست يومها بإحساس غريب لم أكن أعرفه. إحساس بمعنى الإنتماء الحقيقى و ليس الإنتماء الذي لم نكن نجده إلا بأمطشة كرة القدم. كنت فى منتهى سعادتى و كنت أعتبر مريم من أقل الناس حظا حيت انها تركت مصر لتزورنى عدة أيام قبل الثورة و لم تستطع العودة بسبب توقف الطيران لمصر إلا قبل يوم التنحي بثلاثة ايام تقريبا. لن أستطع أن أنسى يوم مكالمتى لوالدي أثناء أيام الثورة و بكائى لهم طالبا منهم ان أنزل مصر. حتى أخيرا أتى يوم التنحى الذى أحسست يومه بأن لأول مرة لي صوت و صوت قد يسمع و أدركت أن صوت المصرىين تحول من كونه صوت عبيد إلى صوت صقور تهتز له الأبنية و تتساقط بسببه الأنظمة السياسية الفاسدة.

و كما تكون الثورة هى مفتاح الحظ الذى فتح لى الطريق الثانى و الأهم و هو الدراسة. أرسلت لى الجامعة يوم الخامس و العشرين من يناير قائلة لى أني بعد أن كنت بقائمة الطلبة الإحتياطيين نظرا لتأخر تقدمي للجامعة فقد وجدوا أماكن شاغرة و طلبوا منى أن أحضر لتلقي إمتحان قبول و بالفعل إمتحنت و قبلت و دخلت اول فصل يوم جمعة الغضب الثامن و العشرين من يناير.
منذ بدأ دراستي أدركت ما هو المعنى الحقيقي للوقت الذي أصبحت أبحث عنه بعدما أختفى. فأصبحت لا أجده إلأ فى ساعات نومى التى أصبحت أفل حتى أستطع تغطية موادى الدراسية. كان هناك مادة مقررة لدى و هى الخطابة. لا أستطع وصف كم أستمتعت و إستفدت من تلك المادة. فلم  يكن لها إمتحان نهاية الفصل الدراسى بل كانت الدرجات توضع على أساس كفائتى فى كتابة و إلقاء ثلاث خطابات أمام زملائي بالفصل بالإضافة إلى جودة نقدي لمسرحيتان من المسرحيات الثلاثة المقدمين على مسرح الجامعة. أول خطبة كانت خطبة وصفية فكان يجب أن أصف شئ أستطيع فعله و ثانى خطبة كانت خطبة خبرية فيجب علي أن أخبر المستمعين بمعلومات فإخترت ان أتكلم عن الثورة المصرية و لن أنس أبدا كم التصفيق الذى حصلت عليه بعد إنتهائى من إلقاء الخطبة برغم ان التصفيق كان ممنوع حتى لا نزعج الفصول المجاورة. و الخطبة الثالثة كانت خطبة إقناع أى يجب أن أتمكن من تغيير فكرة أو وجهة نظر شائعة لدى المستمعين فقررت أن أتكلم عن الإسلاموفوبيا أى الخوف من الإسلام و المسلمين, لمدة عشر دقائق ألقيت الخطبة التى اخذت مني وقت كبير فى التحضير و فى البحث عن أمثلة تظهر سماحة الإسلام من الماضى و من الحاضر. و الوقت الأكثر الذى أخذته كان فى ترتيب و نسج الخطبة بشكل شيق حتى لا يمل مستمعينى و بالفعل نجحت خطبتى نجاح باهر و تكرر التصفيق ثانية و كان التعليق الذى قد سمعته و لن أنساه أبدا كان عندما رأتنى زميلة لى أثناء تجولى بالحرم الجامعى قالت لى : أشكرك فلقد ألهمتنا جميعا.

اليوم الذى لن انساه أبدا هو يوم عرض فيلم ميكروفون بنيويورك. كنت أنتظر هذا الفيلم منذ أن علمت أن مخرجه و كاتبه أحمد عبد الله قد بدأ فى كتابته و فرحت عندما شاهدت حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى بنوفمبر و إكتشفت أنه حصل على جائزة أفضل فيلم عربى و حزنت لأننى لم أشاهده بعرضه الأول بمصر بسبب سفري. كنت قد راسلت خالد أبو النجا ممثل الفيلم على تويتر و سألته اذا كان سيعرض الفيلم بنيويورك و كان لدى يقين أنه لن يعرض و لكننى فوجئت برده بأنه سيعرض بالفعل يومها غمرتنى السعادة. ذهبت لعرض الفيلم الأول بنيويورك و أخذت معى صديقى بالعمل (أنتون) و كلانا أعجبنا بالفيلم  إعجابا شديدا و تكلمت بعد العرض مع خالد أبو النجا و أحمد عبد الله مخرج الفيلم و تذكرنى خالد أبو النجا و تذكر رسالتى على تويترو قابلته بعدها بعده أيام بعد العرض الفيلم الثانى الذى أستطحبت فيه هذه المرة معلمتى بالجامعة.
بعد عدة أشهر أرسل لى خالد أبو النجا رسالة قائلا لى أنه سيلقي خطبة بنيويورك عن الثورة المصرية.  قابلت يومها  دكتور جوزيف مسعد, دكتور الدراسات الشرق أوسطية بجامعة كولومبيا. فقد كان هو مقدم الخطبة و بعد إنتهاء الخطبة كان على الجمهور الرحيل حتى يفسحوا مكان لخالد ابو النجا و المثقفين الضيوف و المسئولين عن هذا المركز الثقافى لتناول العشاء. و لكن عرض خالد أبو النجا علي أنا و ادم بالبقاء و وافقنا فتعرفت على دكتور جوزيف مسعد ,إستمتعت بالحديث معه لمدة ساعتين.
هذا العام الذى أقضيته بنيويورك أثقل معرفتى و ثقافتى من جميع الإتجاهات. سينمائيا, فقد فتحت عينى على أنواع جديدة من السينما و شاهدت أكثر من مائة فيلم بالرغم من إزدحام جدولي و أبرز ما أتذكر منهم الأن هم: فيلم شجرة الليمون الذى يناقش الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية بتناول مبهر و فيلم أمريكا الذى يناقش قصة عائلة فلسطينية بالغربة وفيلم المسافر الذى يتناول نشأة علاقة رجل أبيض بعرب يقتنون نيويورك و أخر ما أتذكر هو فيلم أميلي الفيلم الفرنسى الرائع . و أثقلت أيضا ثقافتى الموسيقية, فقد تعرفت على أكثر من خمسين موسيقي (أندرجراوند) بارع من جميع أنحاء الدول العربية فبالتالي تعرفت على اكثر من 1000 أغنية جديدة. للأسف لم تحتل القراءة جزءا كبيرا من وقتى بسبب ضيق وقتى بين الجامعة و العمل فكانت قرائاتى مقتصرة على المقالات التى نقرئها بالجامعة و نناقشها و روايات قليلة منهم الرائعة أولاد حارتنا.
حقا التجارب هى ما تبني و تصنع الفرد. فكريم الحايس الذي أراه الأن لم أكن أتخيل أن كريم عبد الرازق قد يستطيع الوصول لنضجه بهذه السرعة لكن بالفعل الغربة اثقلتني. لا ادرى كيف سأكون و لماذا سأصل بعد نهاية عامي الثانى. الايام وحدها هى من تستطيع أن تجيبنى. فساظل منتظر إجابتها التى أصنعها بنفسى.  

No comments:

Post a Comment